تاريخ بناء المسجد الأقصى: قصةٌ من العظمة والتاريخ
يُعد المسجد الأقصى واحدًا من أقدس الأماكن في العالم الإسلامي، وهو يمثل في الوقت ذاته رمزًا هامًا من رموز الإيمان والتاريخ العربي والإسلامي. تزينه الآثار الإسلامية العريقة، ويحتل موقعًا مركزيًا في مدينة القدس، التي تحظى بمكانة عالية لدى المسلمين. المسجد الأقصى ليس فقط مكانًا للصلاة والعبادة، بل هو نقطة تلاقي للعديد من الأحداث التاريخية والدينية التي شكلت هوية العالم الإسلامي على مر العصور. يمتد تاريخه إلى قرون طويلة، حيث يمثل مركزًا روحيًا وحضاريًا لم يتوقف عن التأثير في كل من عاش بالقرب منه أو زاره.
1. المرحلة الأولى: البناء الأول للمسجد الأقصى
تبدأ قصة المسجد الأقصى من زمن النبي محمد صلى الله عليه وسلم، ففي السنة 1 هـ (622م)، هاجر النبي من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة، وبعد أن استقر في المدينة، بدأ التفكير في بناء أول مسجد في الإسلام وهو مسجد قباء. بعد فترة قصيرة، بني المسجد النبوي في المدينة المنورة، وهو ما جعل مكة المكرمة تشهد تحولًا كبيرًا في الجغرافيا الدينية.
لكن المسجد الأقصى يرتبط بشكل خاص بإحدى أعظم الأحداث في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وهو إسراء ومعراج النبي في السنة 621م، حيث تم الإسراء بالنبي من المسجد الحرام في مكة إلى المسجد الأقصى في القدس، ومنها إلى السماوات العلا. جاء في القرآن الكريم في قوله تعالى: “سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَىٰ الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ”(الإسراء: 1). وبذلك أصبح المسجد الأقصى مكانًا مقدسًا في قلب المسلمين، ليس فقط من خلال موقعه الجغرافي، بل من خلال تلك الرحلة المباركة التي جمعت بين السماء والأرض.
2. الفترة الأموية: عهد البناء والتوسع
تعود بداية بناء المسجد الأقصى بشكل معماري في فترة الخلافة الأموية، وذلك عندما وصل الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان إلى السلطة في عام 685م. في تلك الفترة، كان المسجد الأقصى هو المركز الديني الرئيس في فلسطين. قرر الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان بناء مسجد واسع ومهيب في موقع المسجد الأقصى القديم ليصبح مَعلمًا هامًا في المنطقة.
وبدأ عبد الملك بن مروان في بناء قبة الصخرة فوق الصخرة المقدسة التي تُعد من أهم المعالم في المسجد الأقصى. كان الهدف من بناء قبة الصخرة هو تجميل المسجد وتعزيز مكانته الروحية في العالم الإسلامي، حيث ارتبطت القبة بشكل مباشر برحلة الإسراء والمعراج. بدأت أعمال البناء في عام 685م وانتهت في 691م، ليصبح هذا البناء أحد أعظم المعالم المعمارية في العالم الإسلامي. القبة نفسها كانت من الذهب الخالص، وشُيدت بأعلى درجات الإبداع المعماري الذي ميز الفن الأموي.
3. التوسع في العهد العباسي والمملوكي
في ظل الحكم العباسي، شهد المسجد الأقصى بعض التعديلات والتوسعات البسيطة، لكن القوة العظمى التي هيمنت على المنطقة في تلك الفترة كانت قد أدخلت تغييرات هامة في المدن الكبرى مثل بغداد. في هذه الفترة لم يشهد المسجد الأقصى تطورًا كبيرًا من حيث البناء، ولكن التوسع في الفنون المعمارية الإسلامية كان يشمل الكثير من المباني والمساجد الكبرى في العالم الإسلامي.
أما في فترة حكم المماليك، فقد شهد المسجد الأقصى تجديدات هامة. ففي بداية القرن 14، تولى السلطان الناصر محمد بن قلاوون الحكم في مصر، وأمر بتوسعة المسجد الأقصى وتنظيفه وصيانته. كما أعاد المماليك بناء بعض الأسطح والمساحات الخارجية للمسجد، وأدخلوا مزيدًا من الزخارف والنقوش على الجدران الداخلية. على الرغم من أنه كانت هناك تجديدات وإصلاحات متنوعة في هذا العهد، إلا أن معظم البناء التاريخي في المسجد الأقصى ظل محافظًا على طابعه الأموي الأصلي.
4. الحقبة العثمانية: إضافة لمسات فنية ومعمارية
في العهد العثماني، الذي استمر من عام 1517م حتى 1917م، شهد المسجد الأقصى مزيدًا من التحسينات والإضافات المعمارية. قامت الدولة العثمانية بإعادة ترميم قبة الصخرة والمسجد الأقصى بالكامل تقريبًا. كما أُضيفت مآذن جديدة، وجرى تطوير الأسطح الخارجية للمسجد بحيث تكون أكثر مقاومة للعوامل الجوية، في محاولة لحماية هذا المعلم العظيم من الزمن.
إضافة إلى ذلك، أنشأ العثمانيون العديد من المرافق حول المسجد الأقصى، بما في ذلك المدارس والزوايا والمكتبات التي شكلت جزءًا من الحياة الدينية والثقافية في المدينة.
5. الاحتلال البريطاني والحديث عن المسجد الأقصى
في عام 1917م، دخلت القوات البريطانية مدينة القدس أثناء الحرب العالمية الأولى. واحتلت المدينة، ومن ضمن ذلك المسجد الأقصى. استمر الاحتلال البريطاني حتى عام 1948م، في وقت نشوء دولة إسرائيل. خلال هذه الفترة، كانت هناك العديد من محاولات الترميم والحفاظ على المسجد الأقصى، رغم الظروف السياسية المضطربة.
تجدر الإشارة إلى أن المسجد الأقصى كان يشهد في تلك الفترة العديد من الصراعات بين المسلمين واليهود الذين كانوا يسعون إلى توسيع نفوذهم في المدينة.
6. التحديات والتطورات في العصر الحديث
بعد إعلان قيام دولة إسرائيل في 1948م، بدأت فترة من النزاعات المستمرة حول القدس ومقدساتها. في عام 1967م، احتلت إسرائيل القدس الشرقية، بما في ذلك المسجد الأقصى. ومنذ ذلك الحين، أصبح المسجد الأقصى هدفًا لصراعات سياسية ودينية مستمرة بين الفلسطينيين والإسرائيليين.
رغم هذه التحديات، ظل المسجد الأقصى مصدرًا للإلهام والروحانية لملايين المسلمين حول العالم. وقد جرت العديد من الجهود الدولية والمحلية لحمايته من محاولات التغيير في معالمه.
7. أهمية المسجد الأقصى في العالم الإسلامي
المسجد الأقصى يظل رمزًا للوحدة الروحية للأمة الإسلامية، وهو يُعتبر ثالث الحرمين الشريفين بعد المسجد الحرام في مكة والمسجد النبوي في المدينة. المسجد الأقصى ليس مجرد مكان عبادة، بل هو معلم تاريخي يشهد على عظمة الحضارة الإسلامية وثقافتها، وقدرتهم على بناء صروح فنية ومعمارية خلّدتها الأجيال.
8. الجانب الثقافي والديني
إضافة إلى مكانته الدينية، يمثل المسجد الأقصى جزءًا من الذاكرة الثقافية والفكرية للعالم الإسلامي. فهو ملاذ للعلماء والمفكرين، ومركز للفتوى، ومكان لزيارة المؤمنين من كل أنحاء العالم. تاريخ بناء المسجد الأقصى، ومسار تطوره عبر العصور، يبرز التفاعل الثقافي بين المسلمين والشعوب الأخرى.
الخاتمة
تاريخ المسجد الأقصى هو جزء لا يتجزأ من تاريخ الأمة الإسلامية، وقد مر بتحديات عديدة على مر العصور. بناؤه لا يمثل فقط معلمًا معماريًا فريدًا بل هو شاهد حي على حضارة غنية تستمر في التأثير على أجيال جديدة. إن الحفاظ على المسجد الأقصى وصون مقدساته هو مسؤولية دينية وتاريخية تقع على عاتق جميع المسلمين في كل أنحاء العالم.
